الخطبة الدينية للشيخ عبد المهدي الكربلائي من الصحن الحسيني الشريف بتاريخ 18 ذو القعدة 1438 هـ الموافق 11 /08 /2017 م

رأس مالنا الذي نكسب به الجنّة ورضا الله تعالى هو الوقت

النص الكامل للخطبة الاولى

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان اللعين الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الموجود لا بعلّة، الغنيّ لا عن قلّة، العزيز لا من ذلّة، القادر لا عن عجز، القويّ لا عن ضعف، العليم لا عن جهل، العظيم في ملكه، الحميد في صنعه، الرؤوف بعباده، وأشهد أن لا إله إلّا الله هو المنزّه عن الأنداد والأضداد، المتعالي عن الصاحبة والأولاد، وأشهد أنّ محمداً(صلّى الله عليه وآله) عبده المصفّى من الأوزار ورسوله المصطفى في الأنوار، صلّى الله عليه وآله المطهّرين بوحي الله، المنتجبين لأمر الله.. أوصيكم عباد الله تعالى وقبل ذلك أوصي نفسي بتقوى الله تعالى واسمعوا وأنصتوا لمواعظ إمامكم وسيّد المتّقين أمير المؤمنين(عليه السلام)، وإذا سمعتم فعوا وإذا وعيتم فاعملوا، وإذا عملتم فأخلصوا فإنّما هي حجج الله تعالى تُقام عليكم، وبيّناته تُتلى عليكم ونُذُره تقدّم بين أيديكم، فإن أعرضتم عن سماعها كنتم من الغافلين وإن أضعتموها بعد العلم بها كُتبتم من الخاسرين..

أيّها الإخوة والأخوات ما زلنا في الوصايا التربويّة والأخلاقيّة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) في كتابه الى الحارث الهمداني، ونذكر هنا أربعاً من هذه التوصيات التربوية والأخلاقية، فيبيّن لنا بالتوصية الأولى ما هي المعايير في التفاضل بين المؤمنين؟ ومن هو أفضل المؤمنين؟ وليبحث الواحد منكم عن توفّر هذه الصفة فيه ليأخذ بميزان المفاضلة، فيقول: (واعلم أنّ أفضل المؤمنين أفضلهم تقدمةً من نفسه وأهله وماله، فإنّك ما تقدّم من خيرٍ يبقَ لك ذخرُه، وما تؤخّره يكن لغيرك خيرُه..) ثمّ يبيّن في الوصيّة الثانية (..واحذر صحابة من يُفيل رأيه، وينكر عمله، فإنّ الصاحب معتبَرٌ بصاحبه، واقصر رأيك على ما يعنيك، وأكثرْ أن تنظر الى من فُضّلت عليه، فإنّ ذلك من أبواب الشكر).

نعرض هنا بالشرح لهذه الوصايا الأربع فيقول الإمام(عليه السلام): (واعلم أنّ أفضل المؤمنين..) من هو أفضل المؤمنين؟ إنسان مؤمن بالله تعالى ولكن من هو الأفضل من بينهم وفق هذه الصفة؟ يقول: (..أفضلهم تقدمةً من نفسه وأهله وماله) هنا عدّة تفاسير في معنى التقدمة، التفسير الأوّل أفضلهم صدقةً أي أنّ تقدمة تعني صدقة، والمعنى أفضلهم صدقةً من نفسه وأهله وماله، ما معنى الصدقة في النفس والأهل؟ في المال الصدقة واضحة، أفضلهم يتصدّق من ماله فهو أفضلهم في الإيمان، هذا واضحٌ يصرف في وجوه البرّ والخير والطاعات هو أفضلهم في المال، باعتبار أنّه أفضلهم صدقة، أفضلهم صدقة في النفس أفضلهم في الأقوال والأفعال، هذا التفسير الأوّل كلّما كان قوله فيه الخير أكثر وفيه الفضل أكثر وفعله كلّما كان فيه الخير أكثر لنفسه وللآخرين كلّما كان في الموقع الأفضل بالنسبة الى المؤمنين، كذلك الأهل ما معنى الصدقة في الأهل؟ أي أفضلهم صدقةً من أهله فهو الذي يكون أفضلهم لأهله حينما يربّيهم ويعلّمهم ويؤدّبهم على أن تكون أقوالهم أفعالهم أكثر خيراً، فحينئذٍ يكون بالنسبة الى أهله هو أفضل المؤمنين وبالنسبة الى أهالي بقيّة الأفراد، هذا هو التفسير الأوّل.

التفسير الثاني أفضلهم تقدمةً في النفس أي الإنسان المؤمن الذي يقدّم نفسه في الجهاد، هذا معنى أفضلهم تقدمةً من نفسه فهذا يكون أفضل من الآخرين، أو أفضلهم في الطاعات والعبادات من قبيل الصلاة والصوم وبقيّة الأفعال، وأفضلهم تقدمةً من أهله هو الإنسان المؤمن الذي يحجّ بولده وأهله، يأخذهم الى الحجّ ويصرف عليهم، يأخذهم للعمرة ويصرف عليهم، الذي يؤدّبهم ويربّيهم ويعلّمهم ويحثّهم على أداء الطاعات والعبادات والقربات والخيرات، هذا الإنسان أفضل من غيره، ذاك مؤمن لكن لا يؤدّي، لديه صلاة وصوم وجهاد لكنّه لا يؤدّي هذه التقدمة بالنسبة الى أهله، وهذا الإنسان المؤمن الذي يهتمّ ويعتني بأهله يربّيهم يعلّمهم يحثّهم يحملهم على الطاعات والعبادات والقربات والأعمال الصالحة هو أفضل من الغير، أيضاً أفضلهم تقدمةً من ماله واضح أنّه الذي يسعى في طلب الحلال ويحرص على صرف أمواله في الطاعات والقربات وغير ذلك من هذه الصدقات، فهو أفضل من بقيّة المؤمنين، أيضاً التقدمة من النفس -يوسّع هذا الشرح في التفسير الثاني- التقدمة من النفس في غير الجهاد وهو الصلاح بين المتخاصمين، هذا أيضاً يعتبر أفضل من الآخرين الذي يشفع شفاعةً حسنة لإنسان عند حاكمٍ ظالمٍ أو عند الآخرين، وهكذا مثل هذه الأعمال أيضاً تعتبر من التقدمة من النفس.

التفسير الثالث يوسّع.. الذي يُعدّ أفضل من حيث التقدمة في النفس هو الذي يخدم الدين أكثر ويخدم عباد الله تعالى أكثر ويخدم المرضى ويخدم المحتاجين ويخدم الفقراء والأيتام والأرامل، ليس فقط الأفضل في أداء الطاعات والعبادات والقربات من حيث التقدمة للنفس والجهاد، لا.. بل يتوسّع في ذلك فيكون أكثر المؤمنين سعياً في قضاء حوائج الناس ومساعدة المحتاجين وخدمة الدين وإقامة المشاريع الخيريّة فهذا أفضل من غيره، هذا المعنى أوسع من المعنى الأوّل لذلك يقول هنا في هذا الشرح الثالث هو الذي يكون أفضلهم طاعاتٍ وقرباتٍ وكذلك يخدم الدين ويخدم عباد الله، أفضلهم تقدمةً من أهله الذي يحمل أهله على مساعدة الآخرين، يوجّه زوجته وأولاده ويحثّهم على مساعدة الضعفاء والفقراء والمحرومين وقضاء حوائج الناس ويحثّهم على خدمة الدين، هذا معنى أوسع فيكون هنا أفضلهم تقدمةً من نفسه وأهله وماله بهذا المعنى الأوسع.

ثمّ يبيّن الإمام(عليه السلام) لماذا هذا الإنسان المؤمن الذي هو أفضلهم تقدمةً في ثلاثة أمور -نفسه وأهله وماله- هو أفضل المؤمنين؟ لماذا الإنسان الذي يقدّم ماله الآن وهو حيّ يُرزق ويُنفق أمواله في سبل الخير والثواب وإعانة المحتاجين أفضل المؤمنين؟ الإمام(عليه السلام) يبيّن السبب في ذلك ويعلّل فيقول: (فإنّك ما تقدّم من خير..) تارةً الإنسان يقدّم أمواله في حياته في هذه السبل، وإنسان يحرص على ماله يبخل بماله في وجوه الإنفاق والقربات والمبرّات ويتركها لغيره يتركها لورثته، هذا أيضاً يصلّي ويصوم ويؤدّي العبادات والقربات لكنّ هذه النعم لا يصرفها في حال حياته في هذه الوجوه، يقول: هذا ليس أفضل.. الإمام يعلّل ذلك بأنّ ما تقدّمه من خير في الحياة الدنيا سيكون لك باقياً في الآخرة ويُذخر لك في الآخرة، بينما الإنسان الآخر الذي يدّخر ماله ولا يصرفه ولا ينفقه في هذه الوجوه فإنّ خير هذا المال سيكون لغيره من الورثة، وبما أنّه ليس كلّ الورثة سينفقونه في وجوه الخير والبرّ بل القلّة، كما نلاحظ الإنسان الذي يترك أمواله وعقاراته لورثته ولغيره قليلٌ من هؤلاء تكون قلوبهم محروقة على هذا الذي ورّث لهم هذه الأموال، فلا ينفقونها في طاعة الله تعالى وقرباته بل يجعلونها لأنفسهم ويتمتّعون بها ويقولون هذا من حقّنا، لا ينفقونها في هذه الوجوه من الطاعات والخيرات والمبرّات فلا يكون ثوابها لذلك الإنسان الذي كانت له هذه الأموال، لذلك لاحظوا تعبير الإمام(عليه السلام) يقول: (فإنّك ما تقدّم من خير يبقَ لك ذخرُه، وما تؤخّره يكن لغيرك خيرُه)، لاحظتم كيف أنّ الإنسان العاقل -كأنّه هكذا- الإنسان العاقل المؤمن هو الذي يصرف هذا المال فيما يعود له بالراحة الأبديّة والسعادة الأبديّة في الآخرة بما يبني له الآخرة، والإنسان غير العاقل يحفظ هذه الأموال ويبقيها فإذا رحل عن هذه الحياة الدنيا تركها لغيره، وبما أنّ الكثرة هي التي ستُبقي هذه الأموال لنفسها بينما القلّة -كما نلاحظ- هم الذين سينفقون هذه التركة في وجوه البر والخيرات، إنسان له ابن أو بنت قلبه محروق على أبيه أو أمّه فيصرف بعض هذا المال الذي ورثه في الخيرات لذلك الميّت هؤلاء قلّة، بينما الكثرة لا.. ينتفعون بها لأنفسهم فحينئذٍ يُحرم صاحب المال من ثواب وأجر هذا الذي تركه من المال ويكون الخير للآخرين لا لنفسه، لذلك الإمام(عليه السلام) في هذا المقطع يحثّ الإنسان على أن ينتفع من هذه النعم والمواهب التي جعلها الله تعالى له في الحياة الدنيا، قبل أن يرحل فجأة ويترك هذه الأموال الكثيرة لغيره فلا ينتفع هو منها، لذلك ورد في الآية القرآنية الكريمة (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) هذا الذي تقدّمه من خير إنّما يكون لنفسك أنت انتفع به في الحياة الدنيا، حينما تقدّمه تجده عند الله مضاعفاً، فإن أبقيته خسرت كلّ شيء إلّا إذا كان الورثة وهم قلّة ممّن تكون قلوبهم محروقة على هذا الميّت فيصرفون هذه التركة في قضاء الصلاة والصوم والحجّ والمبرّات والخيرات، لذلك الإنسان عليه أن يستثمر هذه النعم التي حباه الله تعالى بها في الحياة الدنيا ويصرفها في وجوه البرّ والخير والإنفاق قبل أن يدركه الموت، فلا يمكن أن ينتفع بها لنفسه.

ثمّ يبيّن لنا الإمام(عليه السلام) ضرورة حسن الانتخاب والاختيار للصاحب والصديق الذي نعاشره، ما هي هذه المواصفات؟ يقول: (واحذر صحابة من يفيل رأيه، ويُنكر عمله) ما معنى يفيل رأيه؟ يعني صاحب الرأي السقيم أو غير الصحيح، صاحب العقل والفكر والرأي إمّا غير صحيح وسقيم وإمّا ضعيف في رأيه وعقله وفكره، هذا احذروا من مرافقته ومصاحبته، الآخر الذي يحذّر الإمام(عليه السلام) من مصاحبته ومعاشرته هو الذي يُنكر عمله من المجتمع، لماذا يُنكر عمله؟! لأنّه تصدر منه المعصية والعمل القبيح فيُنكر المجتمع عليه ذلك، هذا أيضاً ابتعد عنه، الإمام(سلام الله عليه) يبيّن ما هو السبب في تحذيره من مصاحبة ومعاشرة ضعيف الرأي والمُنكَر العمل فيقول: (فإنّ الصاحب معتبَرٌ بصاحبه) ما معنى معتبَرٌ بصاحبه؟ يعني أنت حينما تُصادق تارةً إنساناً سيّئ الخلق يرتكب المعاصي والقبائح، ونأتي الى الصفة الأولى ضعيفُ الرأي سقيمُ الرأي غير ناضج في رأيه وفكره ومواقفه وقراراته يقول: هذا ينعكس عليك اجتماعيّاً، حينما تصاحبه الناس سيقيسونك أيضاً بضعيف الرأي ويحكمون عليك بأنّك أيضاً صاحب رأي سقيم وضعيف، ثانياً ستتأثّر بآرائه وأفكاره وعقله، بينما الذي هو قويٌّ في رأيه وعقله وفكره أنت تنتفع منه في مواقفك وآرائك وقراراتك لكن الذي هو ضعيف الرأي يضرّك، أنت صاحبه وصديقه قد تأخذ برأيه الضعيف غير الناضج الذي يسبّب مشاكل أو يفوّت مصالح أو يسبّب أضراراً لك، أمّا إذا كان سيّئ الخلق وتصدر منه القبائح والصفات الذميمة، هذه تترتّب عليها مجموعة من الأضرار أوّلاً سيفقدك هذا الاعتبار والقيمة والاحترام لدى المجتمع، هذا معناه (فإنّ الصاحب معتبَرٌ بصاحبه)، يعني إذا صاحبت إنساناً مُنكر العمل شريراً يرتكب المعاصي وقبائح الأفعال فإنّ اعتبارك واحترامك وتقديرك اجتماعياً عند الآخرين الناس يأخذونه من صاحبك فلا يبقى لك اعتبار وتقدير واحترام عندهم، وانظر حينما تصاحب الإنسان صاحب الخلق الطيّب والمتديّن والأفعال الاجتماعيّة التي يحبّها المجتمع سيحترمك الآخرون وإن لم تكن لديك هذه الصفة، اعتبارك وتقديرك واحترامك الاجتماعيّ سيكون لك وإن لم يكن لك مثل هذه الأمور المستحسنة تقديراً لمصاحبتك هذا الإنسان، هذا أوّلاً.

الشيء الثاني أنّه قد تكون موضع تهمة، فهذا الإنسان المنكر العمل بسبب معاصيه وسوء أخلاقه وشرّه أيضاً سيتّهمونك مثلما يكون لصاحبك، وأيضاً في نفس الوقت تطبّعك بطباع هذا الإنسان المنكر العمل أسرع، لذلك انتبهوا إخواني الكبار وكذلك بالنسبة الى أولادكم وبناتكم.. الإنسان في طبائعه وشمائله وأفعاله يأخذ من الصحبة أكثر ممّا يأخذ من القراءة والاستماع لنصائح الآخرين، ويتأثر من الصحبة أكثر ممّا يتأثّر من النصيحة بالقول والكلمة وأسرع بالتطبّع، فإن كان الصاحب صاحب دين وأخلاق تتطبّع بأخلاقه وسجاياه أسرع وأشدّ، وإن كان شرّيراً وصاحب أخلاق سيّئة ستتطبّع وتتأثّر بأخلاقه السيّئة وتكتسب منه هذه السيّئات والأعمال المنكرة أسرع وأشدّ، لذلك يكون ضرره أبلغ، ولذلك الإمام(عليه السلام) يُعطينا قاعدة فيمن نختار، ووصاياكم لأولادكم من الذكور والإناث في كيفيّة الاختيار والانتخاب للصاحب والصديق وللصاحبة والصديقة لبناتكم شيئان: قوّة الرأي يعني إنسان له عقلٌ وفكر، والإنسان صاحب الدين والأخلاق الذي يُستحسن عمله، أمّا الذي يفيل رأيه -ضعيف الرأي أو سقيم الرأي- اجتنبه لأنّه سيؤثّر على مواقفك وآرائك، أو المُنكر العمل لأنّ أخلاقه سيّئة وأفعاله غير صحيحة فاجتنبه أيضاً، يقول الإمام(عليه السلام): (فإنّ الصاحب معتبَرٌ بصاحبه)، ولذلك ورد في الحديث (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل) الدين أحياناً آخذه من القراءة أو من التعلّم من حضور المجالس من الاستماع الى الأساتذة..، وأحياناً الدين آخذه من صديقي من صاحبي من الذي أعاشره وهذا أشدّ تأثيراً، فالمصاحبة والعشرة أشدّ تأثيراً، لذلك ورد في الحديث (المرء على دين خليله – أي يأخذ منه الدين- فلينظر أحدكم من يخالل) فإن كان صاحب دين ورأي وعقل فصيح وموقف صحيح صاحبه وعاشره، وإن لم يكن كذلك -منكر العمل ضعيف الرأي- ابتعد عنه واختر على ضوء هذه المواصفات.

ثمّ في الوصيّة الثالثة يقول الإمام(عليه السلام): (واقصرْ رأيك على ما يعنيك) هناك أيضاً تفسيران في هذه العبارة، أقصرْ رأيك يعني الفكرة والرأي والكلام اقصره على ما يهمّك، ما يعنيك ما يهمّك وما يهمّك ما ينفعك في الدار الدنيا والآخرة، يعني الشيء من الكلام والرأي الذي لا يهمّك ولا ينفعك ولا يعنيك لا في الدنيا ولا في الآخرة ابتعد عنه، فإن لم تبتعد عنه ستترتّب أضرار كما سنذكرها في التفسير الثاني، اقصر رأيك أي اقصر رأيك وعزمك وهمّتك على ما يعنيك وينفعك من أمور الدنيا والآخرة، حتى تنتفع بهذا الوقت الذي هو رأس مالك وتوظّف هذه الطاقات التي لديك لما ينفعك في الدار الدنيا والآخرة، ولذلك ورد في الحديث (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) هناك كثيرٌ من الناس فضوليّون يتدخّلون في شؤون الآخرين، فتراه يتكلّم بأمور تخصّ الآخرين ولا تعنيه أو يقوم بأعمال لا تعنيه، هذا يترتّب عليه الكثير من الأضرار، فضوليّ يتكلّم بأمورٍ كثيرة ويتدخّل في شؤون كثيرة لا تعنيه ولا تهمّه، من جملة الأضرار إخواني وأخواتي التي تصيب هذا الإنسان الذي يتدخّل ويتكلّم ويجعل رأيه وعزمه في أمور لا تعنيه هو تضييع الوقت، والوقت ثمين إخواني فرأس مالنا الذي نكسب به الجنّة ورضا الله تعالى هو هذا الوقت وهذا العمر وهذه السنين، السنين لا نتصوّرها وقتاً طويلاً فالسنين عبارة عن شهور والشهور عبارة عن أيّام والأيّام عبارة عن ساعات، الإنسان لا يشعر إلّا وأدركه الموت فجأة، رأس مال الإنسان الذي يحصل منه على رضا الله تعالى والجنان إنّما هو هذا الوقت، فلابُدّ أن يستثمر الإنسان هذا الوقت والساعة بل الدقيقة فيما ينفعه للدنيا والآخرة.

الشيء الآخر الإنسان الذي يتدخّل في أمور لا تعنيه يغفل عن الأمور السلبيّة في نفسه وفي شخصيّته، ينبغي للإنسان المؤمن أن يجلس ويتفكّر وينظر ويراقب في صفاته في شمائله في أفعاله في أقواله فيما هو سيّئ منها وفيما هو سلبيّ منها وفيما هو ضارّ منها، لابُدّ أن يتوجّه بوقته وجهده لهذه الأمور التي تهمّه وتجلب له النفع أمّا التدخّل في شؤون الآخرين فسيُفقده مثل هذه الصفة، الضرر الثالث هو أنّه يولّد العداوات والنفور مع الآخرين، انظر لهذا الإنسان الذي يتدخّل في أمور لا تعنيه في شؤون الآخرين قد يسبّب نفرة الناس منه، يُقال له: لماذا تتدخّل في أمورٍ لا تعنيك؟! وقد تسبّب العداوات في بعض الأحيان، لذلك الإنسان المؤمن العاقل ينبغي أن يقصر رأيه وعقله وعزمه وكلامه وخوضه في الأمور التي تعنيه فقط وتجلب له النفع في الدار الدنيا والآخرة، لذلك الإمام(عليه السلام) يوصينا (واقصر رأيك على ما يعنيك).

ثمّ أيضاً في الوصيّة الرابعة (وأكثر أن تنظر الى من فُضّلت عليه، فإنّ ذلك بابٌ من أبواب الشكر) هذه أيضاً مسألةٌ مهمّة، كيف نحصل على الرضا والقناعة والراحة؟! تعلمون إخواني أنّ الله تعالى من حكمته فضّل بعض الناس على بعض، بعضٌ أعطاهم أموالاً ودوراً ورفاهيّةً وحياةً منعّمةً في هذه الدنيا، والبعض ضيّق عليه لمصلحةٍ وحكمة، الإنسان هنا حتّى يكون هذا الدرس الذي ينفع للوصول الى هذه النتائج هل أنّه ينظر الى الآخرين الذين فُضّلوا عليه في البيت والدار والمال والترفّه بهذه الحياة الدنيا؟ هل ينظر الى الإنسان الذي هو منعّم بأتمّ الصحّة والعافية؟ هل ينظر الى الإنسان الذي لديه الجاه والمكانة الاجتماعيّة والمنصب والموقع؟! أم ينظر الى من هو أدون منه مالاً ورفاهيةً وتنعّماً في هذه الحياة الدنيا؟ وينظر الى من هو أدون منه في الصحّة والمصاب بالعلل والأسقام؟ وينظر الى من هو أدون منه في الجاه والموقع الاجتماعي؟! الإمام(عليه السلام) وكذلك النبيّ(صلّى الله عليه وآله) والآيات القرآنيّة يقول دائماً أنت انظر وعشْ نفسيّاً حالة النظر الى من هو أدون منك، الى من فضّلك الله عليه، ما معنى ذلك؟ أنا أحياناً أنظر الى إنسان هو أدون منّي مالاً وحياةً، والنتائج التي تترتّب على ذلك أنّني أقول: إنّ الله تعالى أنعم عليّ أكثر من هذا الإنسان ومنّ عليّ بنعمٍ متعدّدة لأنّي أفضل منه وهو أدون منّي، هذا يولّد الراحة والسكينة النفسيّة والطمأنينة، وهذا يقود الى الرضا والقناعة بما قدّر الله تعالى لهذا الإنسان ويقود الى الشكر لله تعالى، الشكر باللفظ والشكر بالفعل هذا الذي يؤدّي الى أن يشعر الإنسان بنعم الله تعالى العظيمة الذي يقوده الى طاعة الله تعالى، عكس الآخر الذي ينظر دائماً هذا سيارته أفضل من سيارتي، هذا بيته أفضل من بيتي، حياته الماديّة أفضل منّي، موقعه أفضل منّي، جاهه أفضل منّي..، هذه النظرة لأيّ أمورٍ تقود؟ نتسلسل أوّلاً يشعر هذا الإنسان الذي ينظر الى من هو أعلى منه أنّه محروم من هذه النعمة، الشعور بالحرمان يقود الى الشعور بالهمّ والحزن والحسرة، -لاحظ الآن- الشعور بالهمّ والحزن والحسرة لفَقْد نعمةٍ أنعمها الله تعالى على غيره ولم يُنعمها عليه يقود الى الاعتراض والسخط على قدر الله تعالى وقضائه، وسأكون غير راضٍ دائماً أقول: لماذا أعطى الله تعالى لفلان ولم يعطِني؟! ما هو الفرق بيني وبينه؟! هذا الاعتراض والسخط على قدر الله تعالى وقضائه يقود الى وساوس شيطانيّة تؤدّي به الى الشعور بفقدان النعمة، وبالتالي كفران النعمة وسلبها، بالنتيجة أنّه تُسلب منه حالة الشكر لله تعالى، وكفران النعمة يؤدّي الى ضعف الطاعة والعبادة لله تعالى، انظر كيف تتسلسل وقد وصلنا الى نتيجة جدّاً خطيرة!! النتيجة النهائيّة أنّ الإنسان يكفر بنعمة الله تعالى!! عكس الذي ينظر الى فلان بيته بسيط ومتداعي وهو يسكن بالإيجار وينتقل من بيتٍ الى بيت، أو الى من يريد أن يرمّم بيته فلا يقدر وأنا في بيتٍ أفضل منه حالاً فأقول: "الحمد لله" وأشكر الله تعالى، أو أنظر لإنسان مريض وأنا صحيح فأقول: "الحمد لله" الله تعالى أعطاني نعمةً ما أعطاها لغيري، أو أنا مريض بمرضٍ بسيط وخفيف وهناك آخر مصاب بمرضٍ أشدّ وأخطر ويُعاني أكثر منّي فأشكر الله تعالى وأقول بحمد الله تعالى..، وهكذا في بقيّة الأمور الماديّة، لذلك الإمام(عليه السلام) يوصي: أن انظرْ الى من هو دونك، إخواني لا يدخل أحدكم بيتاً فخماً وينظر فيقول إنّه هذا أفضل منّي!! الله تعالى أنعم عليه لماذا أنا ليس لي فتُصاب بهذه الحالة، لا بل قلْ ربّما أنا أفضل من هذا الإنسان، فربّما هو مبتلى بأمر آخر أنا غير مبتلى به، أو ربّما يُحاسب على هذه النعمة وأنا لا أُحاسب عليها، إنسان مريض وأنا صحيح أقول "الحمد لله" الله تعالى ما ابتلاني بما ابتلاه، أو ابتُليت بمرض وآخرون ابتلوا بأمراض أشدّ وأكثر خطورة أقول "الحمد لله" أنا أفضل حالاً منهم، هذا النظر يقود الى حالة الرّضا والقناعة التي تقود الى حالة الشكر، عكس النظر -كما نلاحظ- عند كثير من الناس ينظر الى بيت الآخر وسيّارة الآخر، هذا الآن اقتنى موديلاً أحدث وسيّارته أفضل بيته أفضل أثاثه أفضل حياته أفضل منعّم مرفّه وأنا لست كذلك!! هذا يقود بالنتيجة الى حالة الكفران بالنعمة، لذلك الإمام(عليه السلام) يقول: (وأكثر..) ليس فقط أن تنظر مرّة واحدة هذا لأنّه يقود الى حالة الشكر لله تعالى (وأكثر أن تنظر الى من فُضّلت عليه، فإنّ ذلك من أبواب الشكر).

نسأل الله تعالى أن يوفّقنا للعمل بهذه النصائح والتوجيهات التربويّة والأخلاقيّة، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين..

المرفقات