الخطبة الدينية للشيخ عبد المهدي الكربلائي من الصحن الحسيني الشريف بتاريخ 7 جمادي الثاني 1439 هـ الموافق 23 /02 /2018 م

النص الكامل للخطبة الاولى

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله معين من عبده، وموفّق من حمده، فلم يعبده العابدون إلّا بحمده، ولم يحمده الحامدون إلّا بهدايته ومنّه، وأشهد أن لا إله إلّا الله أحسن الخالقين وأرحم الراحمين، وأشهد أنّ محمداً(صلّى الله عليه وآله) عبده ورسوله، ونذيره وسفيره، ختم به رسالات السماء وزيّن به ديوان الأنبياء، صلّى الله عليه وآله مصابيح الحكمة ومفاتيح الرحمة.. أوصيكم عباد الله تعالى وقبل ذلك أوصي نفسي بتقوى الله تعالى، فبتقوى الله تعالى تصيبون رشدكم وتُدركون قصدكم، وعودوا الى الله تعالى وتوبوا اليه توبةً نصوحاً، تطهّرون بها قلوبكم وتغسلون بها أدران الخطايا من نفوسكم، فإنّ الله تعالى يحبّ عباده التائبين ويفرح بعودتهم ويبدّل سيّئاتهم حسنات.

أيّها الإخوة والأخوات مازلنا في تلك المواعظ العظيمة لسيّد البلغاء والفصحاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) التي قال عنها الشريف الرضيّ(رحمه الله)، إذ قال عن هذه المواعظ: (ولو لم يكن في هذا الكتاب –أي في نهج البلاغة- إلّا هذا الكلام لكفى به موعظةً ناجعةً وحكمةً بالغة وبصيرةً لمبصر وعبرةً لناظر مفكّر).

حيث بيّن أمير المؤمنين(عليه السلام) بعض الصفات السلبيّة القلبيّة والسلوكية التي يمرّ بها الإنسان، وتكون سبباً لتعرّضه للكثير من المشاكل والفشل والحساب في حياة الآخرة.

يقول (عليه السلام): (لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير العمل... ولا تكن ممّن يصف العِبرة ولا يعتبر، ويبالغ في الموعظة ولا يتّعظ، فهو بالقول مُدِلٌّ ومن العمل مُقِلٌّ، يُنافس فيما يفنى ويُسامح فيما يبقى، يرى الغُنمَ مغرماً والغُرم مغنماً، يخشى الموت ولا يُبادر الفوت....).

نرى أنّ بعض الناس يُلقي الدروس والمواعظ والعبر والنصائح للآخرين، ويستشهد أحياناً بفلان وفلان أنّه أخطأ وكانت النتيجة كذا وكذا التي مرّ بها، ويبالغ في وصف ما يمرّ به الآخرون في سرد وتحليل تلك الأحداث والنتائج التي تعرّض لها الأشخاص والمجتمعات بسبب أخطائهم، وتجد عنده البلاغة في الكلام وتجد له تلك المقالات التي تتّصف بهذه الصفات ويكتب كثيراً، لكن هو نفسه لا يتّعظ ولا يعتبر من هذه الدروس والعظات، مثله كمثل الذي عنده مالٌ كثير يوزّعه على الناس لينتفعوا به وهو بحاجة الى هذا المال أو لجزءٍ منه ولكن هو لا ينتفع به مطلقاً، أو مثل ذلك الفلّاح الذي أنتج ثماراً نافعة كثيرة فيوزّعها على الناس لينتفعوا منها وهو بحاجة اليها، ولكن هو بنفسه لا ينتفع منها أو كالذي لديه علمٌ كثير يُلقيه الى الناس لينتفعوا به ولكن هو لا ينتفع منه، فمثل هذا يعرّض نفسه الى الخسارة الكبيرة.

ونجد الكثير ممّن يكتبون المقالات البليغة والمؤثّرة وفيها الكثير من هذه النصائح والمواعظ، ولكن تجد هذا الإنسان هو نفسه يرتكب هذه الأخطاء والعثرات ولا يتّعظ ولا يأخذ العبرة ممّا يُلقيه الى الناس.

الإمام (عليه السلام) يقول: (يصف العِبرة ولا يعتبر ويبالغ في الموعظة ولا يتّعظ فهو بالقول مُدِلٌّ ومن العمل مُقِلٌّ) مدلٌّ هو الذي يستعلي على الآخرين، البعض تجد لديه القابلية على الكلام والكتابة، بلاغته ولباقته في الكلام يفرح ويسرّ بهذه القابليات والقدرات على الكلام والكتابة ويستعلي على الآخرين ولكن في الأقوال والألفاظ والكلام، وأمّا من جهة العمل فعملُه قليل، الإمام ماذا يقول؟ أيّها المؤمن والمؤمنة إذا ألقيتم المواعظ الى الناس انتبهوا هل أنتم تطبّقون هذه المواعظ وتنتفعون من العبر؟ حينما تنصحون الآخرين عودوا الى أنفسكم أوّلاً، هل أنّ هذه المواعظ والنصائح والعبر التي تلقونها الى الناس وتطلبون منهم أن ينتفعوا منها هل انتفعتم منها لأنفسكم لا تكونوا في القول والألفاظ والكلام كثيري الكلام والكتابة، ولكنكم في مقام العمل قليلي العمل، لابُدّ أن يكون هناك توازن بين مقام العمل ومقام الأقوال، لذلك يقول الإمام(عليه السلام) لا تكن من هؤلاء الذين يصفون العبر وينصحون ويعظون ويكثرون من ذلك لكنّهم لا يتّعظون ولا يعتبرون، فأصبح هناك تناقض بين مقدار أقوالهم ومقدار أعمالهم.

ثمّ يقول: (يُنافس فيما يفنى ويُسامح فيما يبقى) ما يفنى هي أمور الدنيا وما يبقى هي أمور الآخرة، التنافس هو التسابق مع الآخرين لنيل شيء، البعض من الناس ينشط ويتحرّك بهمّة عالية ويستفرغ وسعه وطاقته ووقته، ويحاول أن ينال أكبر قدرٍ ممكن من حظوظ الدنيا الفانية التي تزول، وقد يلجأ الى المكر والكيد مع الآخرين ويتسابق مع الآخرين من أجل أن ينال حظوظاً من الدنيا أكثر من غيره، ولكن حينما يكون في مقام العمل والنشاط والهمّة للأمور الأخرويّة الباقية التي لا تزول تراه كسولاً يتوانى ويتأخّر، ولا يتسابق مع الآخرين في سبيل أن ينال حظّاً أعلى من حظوظهم في الأمور الأخرويّة، وهذه الحالة لا تُناسب الإنسان المؤمن العاقل، فالإنسان المؤمن العاقل وقته وعمره ونشاطه وهمّته وحركته في الحياة يجب أن تكون للأمور التي تبقى ولا تزول، أمّا ما يفنى من أمور الدنيا فيأخذ منها بمقدار احتياجه وحاجته، فلذلك ينبغي أن يتنافس ويتسابق مع الآخرين لنيل هذه الأمور الأخرويّة.

ثمّ يقول (عليه السلام): (يرى الغُنمَ مغرماً والغُرمَ مغنماً) الغُنم هي الغنيمة والغُرم هي الخسارة والضرر والغرامة، ما هو مفهوم الغنيمة عند الإنسان المؤمن؟ وما هو مفهوم الغرامة عند الإنسان المؤمن؟ وما هو مفهوم الغنيمة عند الإنسان الدنيوي؟ وما هو مفهوم الغرامة عند الإنسان الدنيوي؟ فرقٌ في المعايير والمفاهيم هنا، البعض من الناس يرى أنّ ما يُنفقه على الآخرين من الحقوق الماليّة والزكوات والأخماس والنذور والكفارات وبقيّة الأمور الخيريّة يعتبره ضرراً وخسارة ونقصاً في ماله، وما يُنفقه في أمور لهوه ولعبه والشهوات المحرّمة وما يحصل عليه من المعاملات المحرّمة والشبهات يعتبرها غنيمة وربحاً، الإمام(عليه السلام) يقول: لا تكن من هذا الصنف الذي يرى فيما ينفقه على الآخرين مغرماَ، فإنّ ما تنفقه على الآخرين من زكوات وأخماس ونذورات هي الغنيمة الحقيقيّة والربح الحقيقي، وأمّا ما يكون في أمور الدنيا فإنّه سيفنى ويزول، وهذا هو الذي يُعتبر خسارة ونقصاً، لذلك ورد في بعض الأحاديث هذا المضمون، حينما تصدّق النبيّ(صلّى الله عليه وآله) بالجزء الأكبر من شاة وأبقى القليل لعائلته، معتبراً أنّ ما تصدّق به هو الذي سيبقى لذلك سيكون هو الكثير، كذلك ورد في بعض الآيات القرآنية هذا المعيار والمقياس، فقد ورد التوبيخ والذمّ واللوم لبعض الأعراب الذين كانوا يرون أنّ ما فُرِض عليهم من زكاة وأخماس غُرْماً وخسارة وضرراً، لذلك ورد في هذه الآيات القرآنية (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا) أمّا المؤمن فيكون مصداقاً للآية الأخرى (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ) لا يرى أنّها غرامة بل أنّه يقرّبه الى الله تعالى.

ثمّ يقول الإمام(عليه السلام) أيضاً: (يخشى الموت ولا يُبادر الفوت) هذه الصفة تشمل الكثير منّا، فالكثير منّا يخاف من الموت لأنّه تفوته أمور الدنيا، والبعض الآخر يخاف من الموت لأنّه قصّر في استثمار عمره السابق في تحصيل الطاعات والقربات الى الله تعالى، ووقع في الكثير من المعاصي، ويُريد أن يتدارك ما بقي من عمره وما فاته من الطاعات حتّى يستزيد منها ويكون متهيّئاً ومستعدّاً للقاء الله تعالى، وهذا شعورٌ جيّد عند الإنسان لكن المشكلة هي أنّه لا يُبادر ولا يُسارع الى تدارك ما فاته واستحصال المزيد من الطاعات والقربات الى الله تعالى، لذلك ينبغي أيّها الإخوة والأخوات للمؤمن الواعي أن يُبادر ويُسارع ويُحاول أن يرى ما فاته من الطاعات وما صدر منه من التقصير في العبادات أو في حقوق الآخرين.

ويقول (عليه السلام): (يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه، ويستكثر من طاعته ما يحقر من طاعة غيره)علينا أن نلتفت أنّ هذه الحالة موجودة عند الكثير وليس القلّة، المشكلة أنّ الكثير يرى العمل الواحد من وجهين، إذا صدر منه أو من غيره هذا العمل الواحد تارةً معصية وتارةً طاعة، نفس المعصية والزلّة يراها من نفسه بمقدار وإذا صدرت من غيره يراها بمقدار أكبر، بالعكس في الطاعة إذا صدرت منه يراها أكبر وأعظم وإذا صدرت من غيره يراها أقلّ وأصغر، ربّما الإنسان الفلاني لديه مشروعٌ خيريّ والآخرون لديهم مشروع خيري ولديهم أداء وعمل بمستوى وهو لديه أيضاً، فهو يستعظمه من نفسه ويُثني عليه ويمدحه ولكن عند الآخرين يقلّل من شأن هذا المشروع ومن شأن هذا الأداء والعمل، فلان يؤلّف كتاباً وهو يؤلّف كتاباً أو ذاك لديه مقالة وهذا لديه مقالة فتراه يعظّم مقالته وكتاباته وآراءه وأفكاره ولكن للآخرين يستصغرها ويقلّل من شأنها ويزدري بها، وهذا عيبٌ قلبيّ ونفسيّ خطير ناشئ من اعتداد الإنسان بنفسه وإعجابه وغروره بنفسه، فيرى معاصي الآخرين أعظم من معاصيه وإن كانت معصية الآخرين أقلّ، ويرى طاعات الآخرين أقلّ من طاعاته وإن كانت مساوية، لذلك إخواني لا تستصغروا طاعات الآخرين وأفعالهم ومشاريعهم وأداءهم وآراءهم وكتاباتهم وأفكارهم، في نفس الوقت أيضاً ما يصدر من معاصي الآخرين لا تعتبروها أعظم وأشنع وأقبح من معاصيكم بل بالعكس، أنظرْ الى معصيتك وإن كانت معصية الغير مثل معصيتك أنظرْ اليها أعظم وأقبح، من أعظم العيوب كما ورد في الحديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام): (أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله)، لذلك أيّها الإخوة والأخوات دائماً على الإنسان أن ينظر الى نفسه والى عيوبه وزلّاته وعثراته وأخطائه وتقصيره بصورةٍ أشدّ من الآخرين، وطاعات الآخرين ومشاريعهم وأعمالهم وأفكارهم وآراؤهم أستعظمها أكثر من آرائك، هذا هو مقتضى التواضع والإنصاف مع النفس أن يكون المعيار في مثل هذه الأمور.

ثم يقول الإمام(عليه السلام): (فهو على الناس طاعن وعلى نفسه مداهن) البعض يأخذ أبسط خطأ من الآخرين ويطعن فيهم، والبعض ليس لديه حديثٌ ولا كلام إلّا الطعن في الآخرين، ولكن حينما يأتي لنفسه يُداهنها ويُسامحها، سواءً كان مع نفسه أو مع من هو قريبٌ منه أو ممّن يعمل معه أو ممّن هم في دائرة محبّته وعمله، أولئك يُداهنهم في هذه الأخطاء والعثرات والزلّات ومع الآخرين شديدٌ يُلاحظ ويرى أصغر العيوب ويطعن في الآخرين وينتقص منهم ويشنّع عليهم وإن كانت أخطاؤه بسيطة ولكنّه يتسامح مع نفسه، الإنسان المؤمن ليس كذلك بل عليه أن يبتدئ بنفسه أوّلاً ويرى عثراته وزلّاته وعيوبه وغير ذلك ممّا يصدر منه.

ثم يقول (عليه السلام): (اللغو مع الأغنياء أحبّ اليه من الذكر مع الفقراء) في المقطع الأوّل اللهو أو اللغو مع الأغنياء هذا ينطوي على عيبين كبيرَيْن، لا نقصد الأغنياء من أهل التقوى والأخلاق والسيرة الحسنة بل الأغنياء الذين هم من أهل الدنيا، الإمام علي(عليه السلام) يقول اللهو أو اللغو مع الأغنياء أحبّ اليه من الذكر مع الفقراء، وينطوي هذا اللهو واللغو على عيبين أوّلاً اللهو واللغو بنفسه مذموم، وهو يحبّ اللهو واللغو مع هؤلاء لكونهم أغنياء، أي لأنّه ينتفع منهم أو تأتيه حسب ما يرى السمعة الطيّبة والذكر الطيّب وينتفع منهم في مصالحه الدنيويّة، فاللهو واللغو مع الأغنياء ينطوي على عيبين، أمّا الذكر مع الفقراء ينطوي على صفتين حسنتين، نفس الذكر هو صفة حسنة ومجالسة الفقراء من أهل الصلاح بنفسها حتّى وإن لم يكن فيها ذكر لله تعالى هي صفةٌ وخصلةٌ حسنة، فالذكر معهم ينطوي على صفتين حميدتين ذكر الله ومجالسة الفقراء.

ثم يقول (عليه السلام): (ويستوفي ولا يُوفِي) أي يُطالب بشدّة بحقّه من الآخرين سواءً الحقّ المادّي أو المعنويّ، ولكنّه لا يوفي حقوق الآخرين كمطالبته لهم بحقوقه عليهم، تارةً هذا المعنى وتارةً في مقام العمل، وهذا ما سنبيّنه في الخطبة القادمة، نسأل الله تعالى أن يوفّقنا وأن نكون ممّن يتّعظون بهذه المواعظ العظيمة، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على نبيّنا محمدٍ وآله الطيّبين الطاهرين..

المرفقات