الخطبة الثانية لصلاة الجمعة بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في 3/شوال/1440هـ الموافق 7 /6 /2019م :

ايها الاخوة والاخوات نتعرض في هذه الخطبة الثانية وما بعدها ان شاء الله تعالى لمجموعة من المبادئ الاخلاقية الضرورية للفرد والمجتمع ونبتدأ في جزئها الاول بمبدأ الخلق الرحمة الانسانية والتراحم الانساني بين افراد المجتمع ودور هذه الرحمة والتراحم في حياة الاسرة والمجتمع.

ايها الاخوة والاخوات الرحمة والتراحم في مقابل القسوة والعنف والغِلظة والخشونة والفضاضة.. التفتوا الى هذا المبدأ الاخلاقي المهم والخطير والرفيع جداً..

تأملوا ما هي اهمية هذا المبدأ الاخلاقي العظيم؟ تأملوا في الايات القرانية لله تعالى الكثير من الصفات والاسماء البعض عدّ ما ذكره الله تعالى من الاسم المشتق من الرحمة وصفة الرحمة وذكرها في القران الكريم اكثر من 300 مرة، لماذا اهتم الله تعالى بذكر هذه الصفة بهذا العدد الكبير؟ لأهميتها، والكثير من الصفات الالهية اساسها الرحمة والعطف والحنان وغير ذلك من هذه الصفات ذكرها الله تعالى بهذا العدد اكثر من غيرها من الصفات الالهية..

احد الصفات الاساسية للانبياء والاوصياء وعباد الله الصالحين الرحمة، لاحظوا في وصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه الكثير من الصفات ولكن ماذا قالت الآية القرانية (وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين)، ما معنى هذه الآية؟

ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع مناهجه في الحياة وتعامله تجد فيه صفة الرحمة والعطف واللين والتودد والرقّة مع الاخرين، وكذلك في الاحاديث التي وردت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي بيان مواصفات المؤمنين الذين كانوا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأساس في العلاقات الاجتماعية بين المؤمنين الصادقين في ولائهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (محمد رسول الله والذين معهُ اشداءُ على الكفارِ رحماء بينهم)، فالرحمة هي الاساس في علاقاتكم الاجتماعية والنظام الاجتماعي الذي لكم يمكن من خلاله ان تؤدي وظائفكم في الحياة..

لاحظوا اخواني نحن كل واحد منا محتاج الى الاخر، حياتنا اجتماعية اقتصادية معيشية قائمة على التعاون والتآزر والتعاطف وكل هذه الصفات منشأها واصلها الرحمة، أي واحد منا مهما كان له من الامكانات لا يستطيع ان يؤدي دوره ومهمته ويوفر احتياجاته ويواجه الازمات والمشاكل والمحن الا من خلال وجود هذه الصفات التي منشؤها الرحمة ولأهميتها الله تعالى اودعها في فطرة الانسان وفي اصل خلقته وتكوينه الانساني، الانسان مهما كان مؤمن او غير مؤمن من دون صفة الرحمة لا يكون انساناً ابداً بل هو مخلوق آخر، لذلك اكدت الايات القرانية والاحاديث الشريفة على اهمية ان يتحلى الانسان فرداً اسرة ً ومجتمعاً بهذه الصفة.

التفتوا الى بعض هذه الاحاديث التي تبين ضرورة اتصافنا بالرحمة في حياتنا، كُلنا حتى الانبياء والمرسلين بحاجة الى رحمة الله تعالى ومهما اطعنا الله وعبدناه نحن بحاجة الى رحمة الله تعالى، الله تعالى يقول اذا اردتم رحمتي ارحموا الناس، كما في هذه الاحاديث :

ورد في الحديث : (لا يرحم الله من لا يرحم الناس).

وورد في احاديث آخرى: (الراحمون يرحمهم الرحمن)، (ارحموا مَنْ في الارض يرحمكم مَنْ في السماء).

فلابد من وجود صفة التراحم فيما بيننا ولا تنتظم لنا الحياة الا من خلال هذه الصفة العظيمة وهي الرحمة.

والآن اخواني نذكر طبعاً الرحمة والانسان هو بمجموعة امور كما ذكرنا رحمة وعدل وعقل وحكمة، الله تعالى وضع منظومة فكرية للرحمة، ليس دائماً الرحمة مطلوبة بل في بعض الاحيان الشدة والحزم والحسم والغلظة مطلوبة في موضعها وموقعها ووقتها لكن نحن بصورة عامة في حياتنا الاجتماعية وفي مختلف مجالات الحياة بحاجة ان نتصف بهذه الصفة ولكنها للاسف الشديد فُقدت في الكثير من مواقع الحياة.

نبتدأ الى انواع الرحمة :

اولا ً : رحمة الانسان بنفسهِ :

اهم مصداق من مصاديق رحمة الانسان بنفسه هو ان يعصمها ويحفظها ويقيها من عذاب الله تعالى وسخطه ويحفظ هذه النفس من شرورها ونوازعها الشريرة وتسويلاتها ورذائلها وموبقاتها، داخل كل نفس من انفسنا هناك نوازع شر وهناك رذائل وموبقات ومشاعر شر علينا ان نحمي انفسنا من هذه الدواخل ونعصمها من الوقوع في المعاصي.

اخطر جريمة وابشع جريمة بحق الانسان ان يحرم الانسان نفسه من حق الحياة وهو المتمثل الآن بشيوع ظاهرة الانتحار، هذه مشكلة الآن، الرحمة تقتضي ان يعطي الانسان لنفسه حق الحياة وان يتنعم بهذه الحياة بالطرق الصحيحة والشرعية والمعقولة، يأتي انسان الآن مشكلة في ازمة نفسية او ازمة معيشية او مشكلة عائلة او طالبة فشلت في الامتحان لم تنل الدرجات المطلوبة او رجل لم يجد فرصة للعمل والكسب او واجه مشكلة عائلية نفسية او اقتصادية او اجتماعية.. انتحر.. وانتم تقرأون في وسائل الاعلام كم انتشرت ظاهرة الانتحار، هذا تؤشر خلل مجتمعي وخلل في مؤسسات الدولة..

اخواني من الامور التي تؤشر خللاً في حياتنا الآن عدم اهتمامنا جميعاً لا مؤسسات دولة ولا المجتمع يهتم بالبناء النفسي والمعنوي والاخلاقي للفرد والاسرة والمجتمع.. كثيراً ما شاغلين انفسنا في الامور الاكاديمية والامور المادية والمعيشية والدنيوية واهملنا جميعاً الجانب المعنوي وبناء الانسان المعنوي والنفسي والاخلاقي والاجتماعي الذي يمثل ركناً اساسياً في الحياة، اكثر اهتمامنا وصرفنا وتوجهاتنا في قضايا العلمية والاكاديمية البحتة هو شيء جيد ولكن لابد من التوازن واعطاء كل شيء حقه..

لم نهتم بالبناء المعنوي وانتم تلاحظون كثرة حالات الانتحار، بنت شابة عمرها ثمانية عشر سنة تنتحر، امرأة تنتحر لانها تواجه مشكلة عائلية، انسان ينتحر لأنه لا يجد فرصة عمل يواجه مشكلة في عائلته ومجتمعه ينتحر، هذا يؤشر خلل مجتمعي علينا ان نهتم بالبناء المعنوي والاخلاقي والقيمي والمبدأي للانسان كما نهتم بالبناء المادي والدنيوي علينا ان نهتم بهذه الامور لذلك هي مسؤولية الجميع.

قال الله تبارك وتعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) – التحريم6- ، وقاية النفس تقتضي الرحمة بها والعناية بها وحفظها من المهالك.

الشي الثاني الذي نحتاج اليه ان نحوّل خُلق الرحمة والتراحم بيننا الى نظام للحياة وحالة مجتمعية وليست فردية وانا سأذكر امثلة على ذلك، كيف نحوّل الرحمة والتراحم الى نظام للحياة يعني انظمة الحياة على رأسها النظام السياسي ان يكون قوامه الرحمة والتراحم ويتجلى ذلك في الحاكم أي حاكم من بيدهِ السلطة والحاكمية ان يكون لديه رحمة في الخلق الرحمة التي تدفعه ان يفكر ويهتم ويعمل لمصالح الامة وخدمتها وقضاء حوائجها، ان يتحول هذه الرحمة منهج وفكر وقرار وتحرك ومنهج عمل وان تقدّم مصالح الامة على المصالح الخاصة، ان الحاكم بمطلق عنوانه يستنفر الطاقات بأجمعها لتحقيق الحاجات والعدل بين مكونات المجتمع وخصوصاً مع الطبقة المستضعفة التي لا تقوى على توفير احتياجاتها الاساسية، من هنا البداية أهم شيء الرحمة والتراحم في الطبقة الحاكمة لأن هذه الرحمة والتراحم اذا حصلت انتشرت الى الناس، انا ارحم اخواني خمسة او ستة او عشرة بينما الحاكم اذا كانت لديه الرحمة انبسطت الرحمة على الملايين وانبسط العدل على الملايين..

لذلك على رأس قائمة الصفات والمقومات للحاكم الناجح الذي يحوّل من معهُ الى ادوات لخدمة الناس والرحمة بالناس والطبقات المستضعفة وبين جميع مكونات الامّة، لذلك ورد في وصية امير المؤمنين لمالك الاشتر وهي اول وصية:

(واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم، فانهم صنفان: أما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق).

ومعنى نظير لك في الخلق انه انسان كما انت انسان ارحمهُ مع قطع النظر عن انتمائه الديني او المذهبي او العنصري لابد ان تكون الرحمة الصفة الاساسية في الحاكم.

ثالثاً : رحمة الاباء بالابناء ورحمة الابناء بالاباء ورحمة الزوجين بينهما والاخوة والرحمة الاسرية وهكذا..

الاب لابد ان يتصف بالرحمة والعناية واللطف وان يحمي افراد اسرته من الامور التي تهلكهم وتضيعهم ويوفر لهم مقومات العيش الكريم بحسب الامكانات المتوفرة.

نجد بعض الاباء كيف انتزعت الرحمة من قلوبهم ان البعض يستخدم العنف والقسوة مع اولاده الصِغار حتى انهُ يقتل طفله ويعذّب ابنهُ وابنتهُ ويكويهم بالسكائر..، قد يقول قائل ماذا نفعل وما هو الحل؟!! هو اب قاس ماذا نفعل؟!

لا اخواني هذا الذي نقوله لابد ان يكون التراحم صفة مجتمعية وظاهرة مجتمعية، ماذا نفعل؟؟

علينا ان نراقب هذه الحالات ونحاول ان نكتشفها ونعوّض عن رحمة الاب برحمتنا لهؤلاء الابناء، احياناً اب اخواني وهذا واقع الحال يقسو مع ابنه المعوّق وصاحب العاهة لأنه اصبح عالة عليه، نحن نذهب نعوّض المجتمع يذهب ويعوّض عن قسوة الأب برحمتهِ، البعض يتحرك ليكتشف هذه الحالة والبعض يتحرك لكي يُغدق الرحمة والعطف لهذا الانسان ولهذا الولد الذي قسى عليه اباه.

احياناً ابناء مع ابائهم، نجد اباء على كرسي معوقين يجلس رُميَ في الشارع وابنهُ غني ومتمكن رمى اباه في الشارع لأن زوجته لا تقبل ولأنه اصبح عالة عليه رماه في الشارع ونسي هذا الابن ان اهم الصفات بعد الايمان بالله تعالى هو الاحسان الى الوالدين..

هذا الابن متمكن ولكنه قاس عاق لوالديه ماذا نفعل؟

نحن نتحرك لكي نعطف على هذا الاب كبير السن الذي رُمي في الشارع نحن نتحنن ونعطف عليه عسى ان الله تعالى يرحمنا وتصبح هذه الحالة حالة مجتمعية، نحن نتحرك ولا نقف ساكتين متفرجين امام هذه الظواهر..

البعض من الاخوة حوّل نفسه الى حاكم متجبر وسلطان جائر بحق اخوانه او اخواته يظلمهم ويغصب حقوقهم..

الزوج والزوجة الله تعالى جعل العلاقة والارتباط بين الزوج وزوجته علاقة المودة والرحمة وهذه من موارد الرحمة التي يجب ان نسعى اليها..

رابعاً : الرحمة بين افراد المجتمع:

ورد في الحديث: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

الله تعالى يقول رحمتي وسعتكم كلكم، انتم ايها المؤمنون ليسع قلبكم الجميع اذا اخوك اصابه غم او هم او مشكلة كأن هذا الغم والهم اصابك انظر الى اخوانك على انهم جزء منك كما لو ان عضو من جسدك اذا تألم كلك تتألم، انت انظر الى اخوانك الاخرين كأنهم جزء منك الواحد منهم اذا عانى واذا تألم اصابه هم غم مصيبة كأنك انت اصبت بهذا الألم والغم، هذه الرحمة تدفعك ان تحاول ان تفرّج عن هذا الانسان وان تعينه وتساعده لأنك تتألم لألمه وتشعر بالحاجة لحاجته..

لا يكون قلبك قاسياً تنظر الى اخاك المؤمن يتضور من الجوع والفقر والالم والمشاكل والامور الاخرى وانت تنظر اليه متفرجاً عليك ان تتحرك بقدر امكانك لا يوجد عندك مال اسعى بجاهك وبمكانتك وبموقعك لكي تفرّج عن هذا الانسان وتحل مشكلته وتعينه ليس مادياً بل حتى معنوياً..

لذلك اخواني صفة التراحم نحن نحتاجها جميعاً واذا الله تعالى رآنا متراحمين انزل رحمته وبركاته علينا..

نسأل الله تعالى ان يوفقنا واياكم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين..

حيدر عدنان

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات